فصل: تفسير الآيات (115- 116):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (115- 116):

{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)}
قوله عز وجل: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: خرج نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر قبل تحويل القبلة إلى الكعبة، فأصابهم الضباب وحضرت الصلاة، فتحروا القبلة وصلوا فلما ذهب الضباب استبان لهم أنهم لم يصيبوا وأنهم مخطئون في تحريهم فلما قدموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنزلت هذه الآية.
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: نزلت في المسافر يصلي التطوع حيث ما توجهت به راحلته.
أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أنا زاهر بن أحمد الفقيه السرخسي أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته في السفر حيث ما توجهت به».
قال عكرمة: نزلت في تحويل القبلة، قال أبو العالية: لما صرفت القبلة إلى الكعبة عيرت اليهود المؤمنين وقالوا: ليست لهم قبلة معلومة فتارة يستقبلون هكذا وتارة هكذا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال مجاهد والحسن: لما نزلت: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [60- غافر] قالوا: أين ندعوه فأنزل الله عز وجل: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} ملكا وخلقا {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} يعني أينما تحولوا وجوهكم فثم أي: هناك {رحمة} الله، قال الكلبي: فثم الله يعلم ويرى والوجه صلة كقوله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} [88- القصص] أي إلا هو، وقال الحسن ومجاهد وقتادة ومقاتل بن حبان: فثم قبلة الله، والوجه والوجهة والجهة القبلة، وقيل: رضا الله تعالى.
{إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ} أي غني يعطي من السعة، قال الفراء: الواسع الجواد الذي يسع عطاؤه كل شيء، قال الكلبي: واسع المغفرة {عَلِيم} بنياتهم حيثما صلوا ودعوا.
قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} قرأ ابن عامر قالوا اتخذ الله بغير واو، وقرأ الآخرون بالواو وقالوا اتخذ الله ولدا نزلت في يهود المدينة حيث قالوا: {عزير ابن الله} وفي نصارى نجران حيث قالوا: {المسيح ابن الله} وفي مشركي العرب حيث قالوا: الملائكة بنات الله {سُبْحَانَهُ} نزه وعظم نفسه.
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أبو اليمان أنا شعيب عن عبد الرحمن بن أبي حسن نافع بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله لي ولد، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا».
قوله تعالى: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْض} عبيدا وملكا {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} قال مجاهد وعطاء والسدي: مطيعون وقال عكرمة ومقاتل: مقرون له بالعبودية، وقال ابن كيسان: قائمون بالشهادة، وأصل القنوت القيام قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصلاة طول القنوت»، واختلفوا في حكم الآية فذهب جماعة إلى أن حكم الآية خاص، وقال مقاتل: هو راجع إلى عزير والمسيح والملائكة، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: هو راجع إلى أهل طاعته دون سائر الناس، وذهب جماعة إلى أن حكم الآية عام في جميع الخلق لأن كل تقتضي الإحاطة بالشيء بحيث لا يشذ منه شيء، ثم سلكوا في الكفار طريقين: فقال مجاهد: يسجد ظلالهم لله على كره منهم قال الله تعالى: {وظلالهم بالغدو والآصال} [15- الرعد] وقال السدي: هذا يوم القيامة دليله {وعنت الوجوه للحي القيوم} [111- طه] وقيل {قانتون} مذللون مسخرون لما خلقوا له.

.تفسير الآيات (117- 119):

{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)}
قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} أي مبدعها ومنشئها من غير مثال سبق {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا} أي قدره، وقيل: أحكمه وقدره وأتقنه، وأصل القضاء: الفراغ، ومنه قيل لمن مات: قضي عليه لفراغه من الدنيا، ومنه قضاء الله وقدره لأنه فرغ منه تقديرا وتدبيرا.
{فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} قرأ ابن عامر كن فيكون بنصب النون في جميع المواضع إلا في آل عمران {كن فيكون الحق من ربك} وفي سورة الأنعام {كن فيكون قوله الحق} وإنما نصبها لأن جواب الأمر بالفاء يكون منصوبا وافقه الكسائي في النحل ويس، وقرأ الآخرون بالرفع على معنى فهو يكون، فإن قيل كيف قال: {فإنما يقول له كن فيكون} والمعدوم لا يخاطب، قال ابن الأنباري: معناه فإنما يقول له أي لأجل تكوينه، فعلى هذا ذهب معنى الخطاب، وقيل: هو وإن كان معدوما ولكنه لما قدر وجوده وهو كائن لا محالة كان كالموجود فصح الخطاب.
قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: اليهود، وقال مجاهد: النصارى، وقال قتادة: مشركو العرب {لَوْلا} هلا {يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} عيانا بأنك رسوله وكل ما في القرآن {لولا} فهو بمعنى هلا إلا واحدا، وهو قوله: {فلولا أنه كان من المسبحين} [143- الصافات] معناه فلو لم يكن {أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} دلالة وعلامة على صدقك في ادعائك النبوة.
قال الله تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي كفار الأمم الخالية {مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} أي أشبه بعضها بعضا في الكفر والقسوة وطلب المحال {قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} أي بالصدق كقوله: {ويستنبئونك أحق هو} [53- يونس] أي صدق، قال ابن عباس رضي الله عنهما: بالقرآن دليله {بل كذبوا بالحق لما جاءهم} [5- ق] وقال ابن كيسان: بالإسلام وشرائعه، دليله قوله عز وجل: {وقل جاء الحق} [81- الإسراء] وقال مقاتل: معناه لم نرسلك عبثا، إنما أرسلناك بالحق كما قال: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق} [85- الحجر].
قوله عز وجل: {بَشِيرًا} أي مبشرا لأوليائي وأهل طاعتي بالثواب الكريم {وَنَذِيرًا} أي منذرا مخوفا لأعدائي وأهل معصيتي بالعذاب الأليم، قرأ نافع ويعقوب {وَلا تُسْأَلُ} على النهي قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: «ليت شعري ما فعل أبواي» فنزلت هذه الآية، وقيل: هو على معنى قولهم ولا تسأل عن شر فلان فإنه فوق ما تحسب وليس على النهي، وقرأ الآخرون {ولا تسأل} بالرفع على النفي بمعنى ولست بمسئول عنهم كما قال الله تعالى: {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب} [20- آل عمران]، {عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} والجحيم معظم النار.

.تفسير الآية رقم (120):

{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120)}
قوله عز وجل: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} وذلك أنهم كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم الهدنة ويطمعونه في أنه إن أمهلهم اتبعوه فأنزل الله تعالى هذه الآية، معناه وإنك إن هادنتهم فلا يرضون بها وإنما يطلبون ذلك تعللا ولا يرضون منك إلا باتباع ملتهم، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هذا في القبلة وذلك أن يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون النبي صلى الله عليه وسلم حين كان يصلي إلى قبلتهم فلما صرف الله القبلة إلى الكعبة أيسوا في أن يوافقهم على دينهم فأنزل الله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ} إلا باليهودية {وَلا النَّصَارَى} إلا بالنصرانية والملة الطريقة {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} قيل الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد به الأمة كقوله: {لئن أشركت ليحبطن عملك} [65- الزمر].
{بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} البيان بأن دين الله هو الإسلام والقبلة قبلة إبراهيم عليه السلام وهي الكعبة {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}.

.تفسير الآيات (121- 124):

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)}
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في أهل السفينة الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وكانوا أربعين رجلا اثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من رهبان الشام منهم بحيرا، وقال الضحاك: هم من آمن من اليهود عبد الله بن سلام وسعية بن عمرو وتمام بن يهودا وأسد وأسيد ابنا كعب وابن يامين وعبد الله بن صوريا، وقال قتادة وعكرمة: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: هم المؤمنون عامة {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} قال الكلبي: يصفونه في كتبهم حق صفته لمن سألهم من الناس، والهاء راجعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وقال الآخرون: هي عائدة إلى الكتاب، واختلفوا في معناه فقال ابن مسعود رضي الله عنه: يقرءونه كما أنزل ولا يحرفونه، ويحلون حلاله ويحرمون حرامه، وقال الحسن: يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون علم ما أشكل عليهم إلى عالمه، وقال مجاهد: يتبعونه حق اتباعه.
قوله: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ}.
قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} قرأ ابن عامر إبراهام بالألف في أكثر المواضع وهو اسم أعجمي ولذلك لا يجر وهو إبراهيم بن تارخ بن ناخور وكان مولده بالسوس من أرض الأهواز وقيل بابل وقيل: كوفي، وقيل: لشكر، وقيل حران، وكان أبوه نقله إلى أرض بابل أرض نمرود بن كنعان، ومعنى الابتلاء الاختبار والامتحان والأمر، وابتلاء الله العباد ليس ليعلم أحوالهم بالابتلاء، لأنه عالم بهم، ولكن ليعلم العباد أحوالهم حتى يعرف بعضهم بعضا.
واختلفوا في الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم عليه السلام، فقال عكرمة وابن عباس رضي الله عنهما: هي ثلاثون سماهن شرائع الإسلام، ولم يبتل بها أحد فأقامها كلها إلا إبراهيم فكتب له البراءة، فقال تعالى: {وإبراهيم الذي وفى} [37- النجم] عشر في براءة {التائبون العابدون} إلى آخرها، وعشر في الأحزاب {إن المسلمين والمسلمات} وعشر في سورة المؤمنين في قوله: {قد أفلح المؤمنون} الآيات، وقوله: {إلا المصلين} في سأل سائل.
وقال طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما: ابتلاه الله بعشرة أشياء وهي: الفطرة خمس في الرأس: قص الشارب، والمضمضة والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس، وخمس في الجسد: تقليم الأظافر، ونتف الإبط، وحلق العانة، والختان، والاستنجاء بالماء.
وفي الخبر: «أن إبراهيم عليه السلام أول من قص الشارب، وأول من اختتن، وأول من قلم الأظافر، وأول من رأى الشيب، فلما رآه قال: يا رب ما هذا؟ قال سمة الوقار، قال: يا رب زدني وقارا» قال مجاهد: هي الآيات التي بعدها في قوله عز وجل: {إني جاعلك للناس إماما} [124- البقرة] إلى آخر القصة، وقال الربيع وقتادة: مناسك الحج، وقال الحسن: ابتلاه الله بسبعة أشياء: بالكواكب والقمر والشمس، فأحسن فيها النظر وعلم أن ربه دائم لا يزول، وبالنار فصبر عليها، وبالهجرة وبذبح ابنه وبالختان فصبر عليها، قال سعيد بن جبير: هو قول إبراهيم وإسماعيل إذ يرفعان البيت {ربنا تقبل منا} [127- البقرة] الآية فرفعاها بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، قال يمان بن رباب: هن محاجة قومه قال الله تعالى: {وحاجه قومه} إلى قوله تعالى- {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم} [83- الأنعام] وقيل هي قوله: {الذي خلقني فهو يهدين} [78- الشعراء] إلى آخر الآيات. {فَأَتَمَّهُنَّ} قال قتادة: أداهن، قال الضحاك: قام بهن وقال: نعمان عمل بهن. قال الله تعالى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} يقتدى بك في الخير {قَالَ} إبراهيم {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} أي ومن أولادي أيضا فاجعل منهم أئمة يقتدى بهم في الخير {قَالَ} اللَّهِ تعالى: {لا يَنَال} لا يصيب {عَهْدِي الظَّالِمِينَ} قرأ حمزة وحفص بإسكان الياء والباقون بفتحها أي من كان منهم ظالما لا يصيبهُ قال عطاء بن أبي رباح: عهدي رحمتيُ وقال السدي: نبوتيُ وقيل: الإمامةُ قال مجاهد: ليس لظالم أن يطاع في ظلمه. ومعنى الآية لا ينال ما عهدت إليك من النبوة والإمامة من كان ظالما من ولدكُ وقيل: أراد بالعهد الأمان من النارُ وبالظالم المشرك كقوله تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن} [82- الأنعام].

.تفسير الآية رقم (125):

{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)}
قال الله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ} يعني الكعبة {مَثَابَةً لِلنَّاسِ} مرجعا لهم، قال مجاهد وسعيد بن جبير: يأتون إليه من كل جانب ويحجون، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: معاذا وملجأ وقال قتادة وعكرمة: مجمعا {وَأَمْنًا} أي مأمنا يأمنون فيه من إيذاء المشركين، فإنهم ما كانوا يتعرضون لأهل مكة ويقولون: هم أهل الله ويتعرضون لمن حوله كما قال الله تعالى: {أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم} [67- العنكبوت].
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا علي بن عبد الله أنا جرير عن منصور عن مجاهد عن طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاه» فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إلا الإذخر».
قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا} قرأ نافع وابن عامر بفتح الخاء على الخبر، وقرأ الباقون بكسر الخاء على الأمر {مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} قال ابن يمان المسجد كله مقام إبراهيم، وقال إبراهيم النخعي: الحرم كله مقام إبراهيم، وقيل: أراد بمقام إبراهيم جميع مشاهد الحج، مثل عرفة ومزدلفة وسائر المشاهد.
والصحيح أن مقام إبراهيم هو الحجر الذي في المسجد يصلي إليه الأئمة، وذلك الحجر الذي قام عليه إبراهيم عليه السلام عند بناء البيت، وقيل: كان أثر أصابع رجليه بينا فيه فاندرس من كثرة المسح بالأيدي، قال قتادة ومقاتل والسدي: أمروا بالصلاة عند مقام إبراهيم ولم يؤمروا بمسحه وتقبيله.
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا مسدد عن يحيى بن حميد عن أنس قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وافقت الله في ثلاث، أو وافقني ربي في ثلاث- قلت يا رسول الله لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى؟ فأنزل الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} وقلت يا رسول الله: يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب؟ فأنزل الله عز وجل آية الحجاب، قال وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه فدخلت عليهن فقلت لهن: إن انتهيتن، وليبدلنه الله خيرا منكن، فأنزل الله تعالى: {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن} الآية [5- التحريم].
ورواه محمد بن إسماعيل أيضا عن عمرو بن عوف أنا هشيم عن حميد عن أنس رضي الله عنه قال: قال عمر رضي الله عنه: وافقت ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}.
وأما بدء قصة المقام فقد روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أتى إبرهيم عليه وسلم بإسماعيل وهاجر ووضعهما بمكة، وأتت على ذلك مدة، ونزلها الجرهميون وتزوج إسماعيل منهم امرأة وماتت هاجر، واستأذن إبراهيم سارة أن يأتي هاجر، فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل فقدم إبراهيم مكة، وقد ماتت هاجر، فذهب إلى بيت إسماعيل فقال لامرأته: أين صاحبك؟ قال ذهب للصيد وكان إسماعيل عليه السلام يخرج من الحرم فيصيد، فقال لها إبراهيم: هل عندك ضيافة؟ قالت ليس عندي ضيافة، وسألها عن عيشهم؟ فقالت: نحن في ضيق وشدة، فشكت إليه فقال لها: إذا جاء زوجك فاقرئيه السلام وقولي له فليغير عتبة بابه، فذهب إبراهيم فجاء إسماعيل فوجد ريح أبيه فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟ قالت: جاءني شيخ صفته كذا وكذا كالمستخفة بشأنه قال فما قال لك؟ قالت قال اقرئي زوجك السلام وقولي له فليغير عتبة بابه، قال ذلك أبي وقد أمرني أن أفارقك الحقي بأهلك، فطلقها وتزوج منهم أخرى، فلبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث، ثم استأذن سارة أن يزور إسماعيل فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل، فجاء إبراهيم عليه السلام حتى انتهى إلى باب إسماعيل فقال لامرأته أين صاحبك؟ قالت ذهب يتصيد وهو يجيء الآن إن شاء الله فانزل يرحمك الله، قال: هل عندك ضيافة؟ قالت: نعم فجاءت باللبن واللحم، وسألها عن عيشهم؟ فقالت: نحن بخير وسعة، فدعا لهما بالبركة ولو جاءت يومئذ بخبز بر أو شعير وتمر لكانت أكثر أرض الله برا أو شعيرا أو تمرا، فقالت له: انزل حتى أغسل رأسك، فلم ينزل فجاءته بالمقام فوضعته عن شقه الأيمن فوضع قدمه عليه فغسلت شق رأسه الأيمن ثم حولت إلى شقه الأيسر فغسلت شق رأسه الأيسر فبقي أثر قدميه عليه، فقال لها: إذا جاء زوجك فاقرئيه السلام وقولي له قد استقامت عتبة بابك، فلما جاء إسماعيل، وجد ريح أبيه فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟ قالت: نعم شيخ أحسن الناس وجها وأطيبهم ريحا، وقال لي كذا وكذا وقلت له كذا وكذا، وغسلت رأسه وهذا موضع قدميه فقال: ذاك إبراهيم النبي أبي، وأنت العتبة أمرني أن أمسكك.
وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ثم لبثت عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا تحت دومة قريبا من زمزم، فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد ثم قال: يا إسماعيل إن الله تعالى أمرني بأمر تعينني عليه؟ قال: أعينك قال: إن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتا، فعند ذلك رفعا القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم حتى ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام إبراهيم على الحجر المقام وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم} وفي الخبر: «الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة ولولا ما مسته أيدي المشركين لأضاء ما بين المشرق والمغرب».
قوله عز وجل: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} أي أمرناهما وأوحينا إليهما، قيل: سمي إسماعيل لأن إبراهيم كان يدعو الله أن يرزقه ولدا ويقول: إسمع يا إيل وإيل هو الله فلما رزق سماه الله به {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} يعني الكعبة أضافه إليه تخصيصا وتفضيلا أي ابنياه على الطهارة والتوحيد، وقال سعيد بن جبير وعطاء: طهراه من الأوثان والريب وقول الزور، وقيل: بخراه وخلقاه، قرأ أهل المدينة وحفص {بيتي} بفتح الياء هاهنا وفي سورة الحج، وزاد حفص في سورة نوح {لِلطَّائِفِينَ} الدائرين حوله {وَالْعَاكِفِينَ} المقيمين المجاورين {وَالرُّكَّع} جمع راكع {السُّجُودِ} جمع ساجد وهم المصلون قال الكلبي ومقاتل: الطائفين هم الغرباء والعاكفين أهل مكة، قال عطاء ومجاهد وعكرمة: الطواف للغرباء أفضل، والصلاة لأهل مكة أفضل.